تكملة الموضوع :

تعتبر منيرة من أشد مبدعي المحترف نشاطاً واستقلالا عن تاريخ الفن ونمطية تقسيماته النقدية، وأثبتت أن الحداثة هي شهادة أسطورية تفور في الزمن المطلق المرتبط بخصوصية المكان، مستثمرة الخامات البكر والرسوم والصباغات كذلك، تبحث عما يمكن استثمار ملصقاته من شظايا العناصر الذاكراتية من صفائح أخشاب لسفن عتيقة أو أبواب أو روشانات ونوافذ وجلود حيوانات معمرة، متعقبة حكمة أساليب الرسم البدائي أو السحري، لعلها الأولى في الوطن العربي التي اكتشفت إمكانات التعبير العبثي غير المثقف أو المعادى للثقافة الأممية، دراسة عن قرب فنون الأطفال وسواهم. وما إن ترسخ أسلوبها "الدادائي" الحر حتى تنقلت معارضها مثل النحلة بين حواضر الخليج والبلاد العربية ثم أوروبا والولايات المتحدة. وتقع أعمالها بين مسطح اللوحة وماكيت أو مجسم النحت.
تتميز رائدة عاشور بصورة كرافيكية متميزة رسمتها عن المدينة المشرقية، ولاشك في أن لدراستها في القاهرة وبالذات للتصميم الكرافيكي تأثيرا ملموساً، ولكت أصالتها تقع في هندستها لعناصر المدينة ضمن مجموعات لونية بالغة الرهافة، تعتمد على الاختزال وتصفي أشكالها من أدنى الثرثرات والمحسنات البديعية، بل إنها تصل في تقشفها الأدائي إلى إلغاء التخطيط والاقتصار على التوزيع المساحي التوقيعي والمنغم بموسيقى أنثوية لا تنسى، ولا ندري أسباب عدم إعطائها الاهتمام النقدي الذي تستحقه خصوصيتها.
تعتبر شادية عالم رمزا حداثيا متقدما مشبعا بعبق الثقافة السعودية، تتجاوز قوة التعبير لديها الحدود التي وقفت عندها تعبيرية فرانسيس بيكون، لذلك فإن تجربتها تنتمي نقديا إلى "التعبيرية المحدثة" وهي التي خرقت شتى القواعد النقدية الجاهزة في التشخيصية، لأنها أعادت استثمار شتى مواطن الهذيان و"الفن البكر" وسواها. تترجم لوحة شادية احتداما "بسيكولوجيا" متحرقا بلواعج حركة الجسد والخط في الفراغ، تنزلق وجوها في مرآة من الحلم والأشواق العرفانية أو العدمية الفنائية، تبدى هيئاتها الأصيلة"تخلقا" وصيرورة سردية وجدانية طالعة من شجن وحسن ولوعة أساطير الأقدمين التي تسكن الأبدية. كثيرا ما تذكرني رسومها بالشطحات البصرية التي تزخر بها كنوز المنمنمات، خاصة التي تمثل سير الزهاد والدراويش وعرائس الظل والمحفورات الشعبية، تحضرني أخيلة رسوم سيرة مولانا جلال الدين الرومي كما تجلت لعاشقيه مع شمس الدين وسواهما. تستحق تجربة شادية عالم مراجعة بعض من مفاصلها التي تملك بالنسبة لي وقعا خاصا، فقد تهيأ لي أن أكتشف أصالتها عام 1993 عندما كنت عضوا في لجنة تحكيم "مسابقة ملون" السعودية في جدة، أسرتني واجتاحت وجداني حدة تعبيرها، ولم استطع في وقتها أن أقنع اللجنة بأهميتها، ولكنها حصلت على جائزتها المؤجلة في الدورة التالية عام 1994، ونشرت اللوحة الفائزة التي تمثلها مع أختها رجاء في "مجلة السعودية" تحت عنوان "الجونا" ونشر إلى جانبها نص كتبته هي، لا يقل نبضا عن تصويرها، وبدأ مشوارها يشق بعناء مجراه في بحر التجريد الحروفي والرقشي والفولكلوري الطاغي على حبوات المحترف الأولى.
انتزعت شادية عالم جائزة شركة الطيران البريطاني بعد عامين، وقررت مؤسسة المنصورية للثقافة والإبداع تكريمها، وهي التي أسستها صاحبة السمو الملكي الأميرة جواهر بنت ماجد بنت عبدالعزيز، التي أصبحت منذ ذلك الحين من أشد المؤسسات التشكيلية نشاطا في حمل الإضاءاتالفنية السعودية إلى الخارج للتعريف بها، وهكذا كان المعرض الأول لشادية معرضا استعاديا تكريميا مرفقا بكتاب بالغ العناية، كان لي شرف كتابة النص التحليلي فيه تحت عنوان : عوالم شادية عالم، وكان نجاح المعرض منقطع النظير في جدة.
كان لا بد لمؤسسة المنصورية من انتزاع هذه الشهادة العامة وذلك من أجل إثبات رهانها حول ما تمثله تجربة شادية، وكان علينا أن ننتظر سنوات قبل أن نكشف العلاقة الإبداعية التوأمية بين شادية وأختها الأدبية المعروفة رجاء. كان هذا التوحد التصوفي النادر بين شطح الكلمة وشطح الشكل متجلياً في المشروع التالي "جنبات لار" وهو كتاب فاخر الطباعة، نفذت فيه اللوحات الاثنتي عشرة بطريقة الشاشة الحريرية السيريغرافية، عرض في باريس (معهد العالم العربي) وعرض منذ في بيروت في صالة "رييز" وفي كل مرة حقق نجاحا وترحابا مذهلين. النص والرسم يعبران عن الحالة التحولية الراقصة التي تتحلق كل مرة في لبوس إبداعي جديد، وأغلب الظن ان شادية أنجزت صور الجنيات أولا، ثم كتبت رجاء النصوص، ولكن الاطلاع على هذه التحفة يجعلنا نشك في من هو البادىء، قد تكون الاثنتان معا.
تمثل شادية بالنتيجة رمزا إبداعيا ضميرياً للثقافة السعودية لا يجاريها إلا الفنانة باية محيي الدين الرمز الثقافي في الجزائر. ولكننا نحن هنا بصدد حالة توأمية خاصة لا تقبل أدنى انفصام تتراشح فيها كلمة رجاء مع ريشة شادية.
تجوس النحاتة إلهام بومحرز في نفس وحشة " ما بعد "الحداثة" محررة التعبير النحتي من تقاليد التمثال والآبدة التي تفرض علينا الدوران والالتفاف حولها. تعبد بومحرز النحت إلى أصله الغائر والنافر كما كان على أديم الكهوف وبوابات المعابد والهياكل السحرية والمدافن، تعيده إلى مادته الكونية الأولى :التراب، الطين الصلصال، الفخار، أو المعجونة التي تحمل ذاكرة ولون هذه المواد، ثم تستخرج مسوخها وكائناتها الشيطانية من تيه المادة وشعثها. كثيرا ما تستخدم ملصقات الخشب أو الخيش، استمرارا لتراث عبثية مواد منيرة موصلي، وقد انحجبت نسبيا عن العرض بعد إقامتها الدراسية في القاهرة، ما خلا بعض المواسم المتباعدة. مثلها مثل بعض الموهوبات اللواتي ينحجبن بصورة مباغتة دون تفسير، هذا هو شأن هدى لادن التي تلألأت في مهرجان سيؤول عام 1988.
لا شك في أن بومحرز تتفوق على تاريخ النحت المحدود في المحترف السعودي، والذي لا يتجاوز المحدود في المحترف السعودي، والذي لا يتجاوز حدود على الطخيس واستاذه عبدالله العبداللطيف، وكانت منيرة موصلي وشادية عالم قد كسرتا الحاجز بين اللوحة والنحت.
لقد حبى الله المحترف السعودي بعقد من السيدات المبدعات، لم أستطع أن أتعرف على تجاربهن جميعا إلا من خلال أعمال مشرذمة متباعدة، أو من خلال كراسات المعارض العامة، تعرفت على بعض أعمال زهرة بوعلي في أكثر من مناسبة منذ التسعينات، أثار أهتمامي في تجربتها تلك الصباغة العجينة السخية والمحتقنة بألوان البراكيم والحمم والنيازك، تشحن تعبيريتها بحدة مأزومة لا تخلو من طغيان ذاكرتها الطفولية، يتبدي ذلك في بعض الوجوه المريرة المحبطة، ومهما يكن من أمر فهي تمتلك وعدا لا يستهان بخصائصه.
لا سك في أن معرفتي المتواضعة ببقية التجارب النسائية تحتاج إلى إعادة مطالعة ميدانية، خاصة اللواتي يثرن اهتمامي من خلال المصادفات النادرة مع عمل لهن أو صورة، على غرار حميدة السنان، منى النزهة، هدي العمر وخاصة بدرية الناصر واعتدال عطيوي وشريفة السديري وغيرهن.
ذلك أن هذه النماذج من عائلة المبدعات السعوديات تشكل جزءا (على تواضع عدد الدراسات) من محترف يعتبر اليوم الأكثر أصالة وتميزا وخصوبة وتلغيزا بين محترفات الفن المعاصر في دول الخليج العربي.


جريدة الفنون - العدد6 - 2001